الثلاثاء، 10 ديسمبر 2019


جديد عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم على مستوى التحليل النفسي
د. زهير بختي دحمور

المصدر: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني/ د. زهير بختي دحمور

لا شك أن نظرية النظم من النظريات المهمة في التحليل النفسي للنصوص، وهذا للمساهمة الجليلة لهذه النظرية في تبيان مدى تعلق نظم الكلام بالحالة النفسية للمتكلم، ومدى مساهمة الانفعلات في صناعة اللغة، فالكلم تقتضي في نظمه آثار المعاني وترتيبها على حسب ترتيب المعني في النفس لأن تعلق لفظ بلفظ من أجل صنع معنى معين هو في الحقيقة اختيار نفساني  لتلك الألفاظ التى تبرز صورة معينة يمكن فيما بعد قراءتها على سبيل الحقيقة أو المجاز على اعتبار محاولة كشف الشعور أو اللاشعور.
لا نقول أن عبد القاهر سبق إلى التحليل النفسي للنصوص، وهذا لسبب بسيط جدا هو أنه لم يكن طبيبا نفسانيا ولا ناقدا سياقيا، ولكن باعتبار نظرية النظم نظرية إبداع ونظرية قراءة وتلقٍ في آن واحد - وباعتبارها تفسر معاني شعرية - فإنها تقر بمدى تعلق النظم الكلامي بالخلجات النفسية التي تصنع من الشاعر شاعرا.
الجديد الذي نلمحه في اتخاذ نظرية  النظم كمنهج تحليلي نفسي هو إسهامه في كسر مركزية النص، ومحاولة إعطاء نتائج أكثر دقة باعتماد الجملة دون إهمال النص ونفيه، لأن اتخاذ فكرة تحليل النص دون اعتبار للألفاظ والجمل قاصر عن الكشف عن الكثير من النتائج اللاشعورية التي هي من أولويات علم النفس، وهذه النتائج اللاشعورية لا يمكن أن تتأتى خارج نظم  الجملة، ولو تتبعنا جملة من محاولات النقد النفسي للأعمال الأدبية سنلاحظ -بلا شك- إهمال الجملة؛ لأن النصوص كانت تؤخذ كخطاب عام لا يهتم بالتفاصيل المكونة لهذه النصوص، وهذا نتيجة خلفية معرفية لدى الناقد العربي وخاصة المحدث والمعاصر؛ فهو يرى من خلالها أن القصيدة هي كل متكامل لا يمكن فصل أجزائها عن بعضها البعض، وهذه النظرة تولد اهمال كثير من الشيفرات التي هي من جوهر التحليل النفسي ولا نكتشفها إلا من خلال: التقديم والتأخير، والفصل والوصل، والمجاز وطرائق التشبيه والتمثيل وغير لك.
لا ننسى أن جوهر الأدب محاكاة وانعاس تصنعها حالات نفسية معينة في قالب لغوي معين عبر تسلسل زمن قصير أو طويل، ولم تكن أبدا هذه النصوص وليدة لحظة زمنية معينة كما هو الوحي، ولهذا فهي أولى بأن تُعطَى للجملة أهميتها في التحليل؛ لأن نظرية النظم تعطي أهمية للجزء كما الكل، فالكل يفسر الجزء والجزء يفسر الكل ويخدمه، وقد أعجب التفتازاني في مطوله بشرح الجرجاني لبيت العباس بن الأحنف:
سأطلب بُعد الدار عنكم لتقربوا     وتسكب عيناي الدموعَ لتجمدا [1]
ورأى أن لكثير من النقاد كلام فاسد في شرحه[2]، والمعنى: "أني اليوم أطيب نفسا بالبعد والفراق، وأوطن نفسي على مقاساة الأحزان والأشواق، وأحتمل لأجلها حزنا يفيض الدموع من عيني لأتتسبب بذلك إلى وصل يدوم، ومسرة لا تزول، فإن الصبر مفتاح الفرج، ومع كل عسر يسر"[3].
إذن لا مجال للمقارنة بين تحليل نفسي يعتمد الفهم الكلي العام للقصيدة، وبين تحليل نفسي لشرح الجرجاني لبيت العباس بن الأحنف على منهج النظم، "وواضح من منهج عبد القاهر في تحليل الأبيات أن مرد هذه الخصائص حتى ولو كانت حالات شعرية أو نفسية إلى مدى استطاعة  الأثر الفني في الانتفاع بمختلف القوى التي تستطيع بها الألفاظ مجتمعة أن تبعث هذا الاحساس أو ذاك"[4].
إن كون نظرية النظم نظرية إبداع ونظرية قراءة معا يجعلنا نصل إلى المبدع عبر إبداعه من خلال تحليل نصوصه الأدبية، وفي الآن ذاته هي آلية يستخدمها المبدع لإنتاج النصوص وتنقيحها ونقدها، وهي لا شعوريا تصنع قارئا ضمنيا عبقريا.




[1] - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص: 57.
[2]- ينظر: ثناء نجاتي محمود عياش، الجهود البلاغية للتفتازاني في كتابه المطول، ص:69.
[3]- المرجع نفسه، ص:69، وللجرجاني في ذلك شرح مطول ودقيق يمكن الرجوع إليه. ينظر: عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص: 268-271.
[4] - محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، د.ط، 1979، ص:328.


مقتبس من كتاب: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني للكاتب: د. زهير بختي دحمور
للاطلاع على الكتاب انقر

0


جديد عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم على مستوى الفن
د. زهير بختي دحمور

المصدر: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني/ د. زهير بختي دحمور

يقسم كانط الفنون الجميلة إلى ثلاثة أنواع: فن القول، وفن لعبة الإحساسات (بوصفها انطباعات خارجية للحواس)، وفن التشكيل[1]، وهو يجعل من أشكال في مكان تعبيرا عن الأفكار[2]، ويقول عنه: "أما كيف يمكن أن نضم الفن التشكيلي إلى الإيماءات في اللغة (بحسب التمثيل)، فله ما يبرره في أن روح الفنان هي التي تهب عبر هذه الأشكال تعبيرا جسمانيا لما فكر فيه... وهذه لعبة مألوفة جدا يلعبها خيالنا حينما يضفي على الأشياء الجامدة كل حسب شكله روحا يتكلم إلينا بواسطته"[3]
من المشهور والواضح جدا أن الفن التشكيلي استفاد كثيرا من النظريات النقدية والفلسفية؛ نظرا لما تمتاز به النظرية الفلسفية من شمولية تمكنها من إعطاء مقاييس ومفاهيم قابلة للتعميم على مجالات المعرفة المتعددة، وكذلك يمكن قياس هذا على نظرية النظم إذا اعتبرناها تتقاطع مع الفن التشكيلي باعتبار أن كلا ًّمن الرسم والكلام لغة تواصلية، فإذا صح هذا الاعتبار فإنه  -وبالضرورة- يمكن قياس الآليات الممكنة من توسيع النظرية الجرجانية على الفن التشكيلي .
صحيح أن نظرية النظم ولدت من رحم تفسير القرآن الكريم، ولكن الجرجاني لم ينظر إليها باعتبارها تخص فقط الدراسات القرآنية بل إنه حاول أن يكون القرآن الكريم كآلية استدلال على تنظيره للبلاغة وأوجه إعجاز اللغة العربية، فهو بذلك يجعل نظرية النظم على مستويات ثلاثة:
المستوى الأول: اعتبر فيه النظم آلية تلقٍ (قراءة) تعتمد على فك رموز النظم، وتأويل الرسالة، ومحاولة فهمها على الوجه الأقرب وهو بذلك عمل تفسيري من طرف المرسَل اليه.
المستوى الثاني: اعتبر فيها النظم آلية إرسال (إبداع)  يعتمد عليه في صنع الرسالة لإيصال معنى معين يتغير حسب ما يراد له وهو بالتالي عمل إبداعي من طرف المرسِل، فالمرسل يختار آلية النظم الملائمة لمعنى معين يريد إيصاله.
المستوى الثالث : اُعتُبِر فيه النظم قواعد تجب مراعاتها، ولا يمكن الخروج عنها، وأن الإخلال بقواعد النظم هو إخلال باللغة ذاتها؛ فقد يحيل بلا شك إلى فهم سطحي للرسالة، وبهذا فالنظم آلية من آليات اللغة  التي يتوجب مراعاتها في إنشاء (الرسالة).
إذن فالمستويات الثلاثة تنطبق على طبيعة الفنون لكونها تجمع المستويات الثلاث، كما يمكن قياس تعريف الجرجاني على الفن التشكيلي حين قال: "إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها"[4]، وهنا يمكن اعتبار الألفاظ بأنها هي الصور المفردة للخطوط والألوان التي لا تعطي دلالتها الواقعية والرمزية إلا حين تأليفها مع بعضها، فلا معنى لوجود خطوط مستقيمة أو منحنية وألوان مبعثرة غير متناسقة مالم تشكل مع بعضها أبعادا وأجساما؛ فهذا الالتحام بين هذه العناصر هو ما يعطي اللوحة أو الرسمة قيمتها وفنيتها، ولهذا يقول الجرجاني عن اللغة الكلامية: "فلو أنك عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته عدا كيف جاء واتفق، وأبطلت نَضَدَه ونظامه الذي عليه بني وفيه أفرغ المعنى وأُجرِي، وغيرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد ما أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد... أخرجته من جمال البيان الى مجال الهذيان."[5]، وقد يطرح الإشكال:
 إنه إذا تآلفت الأشكال والألوان والعناصر المكونة للصورة بشكل منطقي على ما تقتضيه نظرية النظم، فإنها بالضرورة تتولد لدينا صورة واقعية تفتقر إلى المعطيات الفنية، بل إنها تفترق عما نعرفه من الفنيّات الرمزية وبالتالي فالنظم يصنع أشكالا لا فنا أو بالمفهوم اللغوي أنه يصنع كلاما عاديا لا لغة راقية بليغة.
جدير بالذكر أن للمجاز مكانة لا يستهان بها عند الجرجاني، والتأويل كما هو معروف هو الآلية التي يعتمدها الناقد في تفسيره في حين أنه وسيلة إرسالية بالنسبة للمرسل، لها وظيفة مشابهة في الفن التشكيلي بين الفنان والمتلقي؛ فالتعاطي مع الصورة الفنية هو في حد ذاته تأويل للعلامات التي تحويها اللغة أو المشهد و"يمكن التمييز في دلالة عناصرها بين مستويين: دلالة مرئية عادية ودلالة لا مرئية مجازية رمزية وتأويلية، لأن الفنان لا يستخدم الأشياء في إبداعاته الفنية بمعناها العادي، وإنما يركب منها استعارات ومجازات للتعبير الرمزي عن مشاعره ومنظوره الخاص"[6].
 وكما أن المجاز في نظرية النظم له قيمته، فإنه أولى بذلك في الفن، لكون اللغة العادية تقصر أمام إرادة التعبير الفني، فقد سبق أن قيل "عندما تتسع الرؤيا تضيق العبارة" لأنه انتقال من الحالة الانفعالية إلى الحالة التأملية، وهذا جوهر رمزية الفن التي تتخطى حدود الزمان والمكان، وقد "لوحظ كثيرا أن الفنانين العاديين يمدوننا بدقائق عن حياتهم الخاصة وحياة المجتمع في زمانهم أكثرمن عظماء الفنانين الذين يتجاوزون حدود عصرهم ومجتمعهم وأنفسهم من حيث هم يشاركون في الحياة الواقعية، ومن ثم كذلك ينشأ هذا النوع من الضيق الذي تحدثه فينا آثار تفيض ولا شك بالعاطفة، لكنها خالية من النهوض بالعاطفة إلى الصورة الحدسية المحضة التي هي أخص خصائص الفن"[7].
إن ما يعبر عنه شاعر أو أديب باللغة يعبر عنه فنان آخر بفنه، وما نظرية النظم إلا وسيلة عبور هذه الأجناس إلى المتلقي وآلية لتفسير الإبداع، ووصول الرسالة مبني في الأساس على تكافؤ طرفيها المرسل والمرسل إليه أو إن شئنا التعبير بين الفنان والمتلقي.
حقيقة إننا لا نستعمل الكثير من مفاهيم النظم، ولكن -وكما هو معروف- فالنظرية الفلسفية لا تشترط كل محاورها وعناصرها من أجل تبنيها في مجال معرفي معين، إذ يمكن أخذ المعالم الكبرى أو العامة ليتبنى فن من الفنون خلفية فلسفية.




[1] - إمانويل كنت، نقد ملكة الحكم، ترجمة: غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط:01، 2005، ص:250.
[2] - ينظر: المصدر نفسه، ص:251.
[3] - ينظر: المصدر نفسه، ص:254.
[4] - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص: 539.
[5] - عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، جدة، ط:01، 1991، ص:04-05.
[6] - شوقي المصطفي، المجاز والحجاج في درس الفلسفة بين الكلمة والصورة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط:01، 2005، ص: 95.
[7] - بندتو كروتشه، فلسفة الفن، ترجمة: سامي الدروبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، د.ط، د.ت، ص: 149.


مقتبس من كتاب: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني للكاتب: د. زهير بختي دحمور
للاطلاع على الكتاب انقر

0

جديد عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم
د. زهير بختي دحمور
إن المذهب العقدي الذي كان يتمذهب به عبد القاهر الجرجاني أعطاه شجاعة في البحث البلاغي في القرآن الكريم لا نجدها في المدرسة التيمية إن صح التعبير وخاصة في بعض الحنابلة، وذلك أن الحنابلة -في كثير من قضايا التفسير- لايؤولون، وهم يحاولون إيجاد أي أثر يبعدهم قدر الإمكان عن تأويل  القرآن الكريم والنظر إليه عقليا، وهذا ما جعل بعض مخالفيهم من أهل السنة أنفسهم يصفونهم بالحشوية ويعيبون عليهم كونهم ظاهريين.
فمبدأ ظاهرية النص الذي اتخذه الحنابلة أساسا لهم لم يعطهم الشجاعة في البحث حول التأويل واعتبروا أن تأويل النص يأخذه إلى غير ما أريد به؛ فالصفات التي أوّلَها الأشاعرة إنما هي عند مدرسة الحنابلة أو -لنقل (مدرسة ابن تيمية) بالذات- صفات ثابتة تقتضيها معاني الألفاظ المعروفة في لغة العرب على وضعها الظاهر منها، وهذا ما اعتبره الأشاعرة وغيرهم تجسيما وتشبيها، وهو ما يتنافى مع قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ  وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[1].
إن إمعان العقل في لغة العرب واعتبارها معيارا للتفسير بحجة أن القرآن جاء على لسانهم متحديا بلاغتهم وصناعتهم هو الذي كان حافزا في الوقت نفسه لعبد القاهر الجرجاني -بكونه أشعريا- لأنْ يبحث في بلاغة القرآن الكريم ويتخذ من آراء المدرسة الأشعرية موردا ومنهاجا في قراءته وتنظيره.
رأى الجرجاني أن للنظم ميكانيزمات بلاغية تجعل من الكلام كلاما بليغا، ومن جملة المواضيع التي فصلت بين الحنابلة والأشاعرة القول في المجاز، فقد قال ابن فورك عن الأشعري "يقول فيه: إن استعمال اللفظ في القول بأنه مجاز مجاز، وذلك أن أصل معنى المجاز من التجوز، ومن قولهم: جزت المكان إذا عبرته. قال: ذلك إذا استعمل في القول فتوسع في العبارة وليس حقيقة"[2].
كان ربط النحو بالنظم بمثابة إخراج النحو من شكليته وجفافه والخروج به من خلافات الإعراب والبناء، وهذا ما بعث فيه دفء اللذة والسمو بالذوق[3].
في الوقت ذاته حوَّل النظم البلاغة من مبحث الذوق إلى الرؤية العقلية للتراكيب البلاغية.
يقول فتحي أحمد عامر في هذا الصدد: "فتح عبد القاهر بذلك باب التذوق البلاغي على مصراعيه للدارسين والعلماء من معاصريه، والمتأخرين عنه، وظل رائد مدرسة الإعجاز البياني التي حددت معالم الفكرة المعجزة التي هي النظم، والخروج بعلم النحو إلى نمط خير مما كان عليه، وأصبح التعريف والتنكير والتقديم والتأخير والإفراد والتثنية والجمع وغير ذلك من مسائل النحو لدقائق وأسرار يتأملها العقل البشري ويتلذذ بها التفكير الإنساني في آيات القرآن"[4].
من ناحية أخرى فإن الجرجاني تجاوز النقد التقليدي الذي يعطي أحكاما انطباعية منبنية في أصلها على مقارنة الأبيات بأبيات، وإعطاء الحكم على القصائد من خلال بيت واحد قد يصير صاحبه أشعر العرب عند أحدهم أو أشعر الجن والإنس عند آخر.
لقد ساعدت العقلانية الأشعرية في الحكم على القضايا  فتح مجال عريض لتطوير النقد، وعليه فنظرية النظم -الجرجانية بالخصوص- هي محاولة في علمنة الأدب والبلاغة، وهي بحث في محاولة إتاحة الفن للجميع وتجاوز فكرة ما نعرفه اليوم بالموهبة أو ما عرفه الأقدمون بشيطان الشعر، وهذا يعتبر فكرة سباقة إلى البحث في الأسلوب لا من ناحية الانفراد باللفظ فقط أو بالأسلوب، ولكنه نظر إلى الأسلوب من حيث كونه جملة تراكيب لغوية ذات علاقة وطيدة بالسياق والنسق.
هذه الفكرة شكلانية إلى حد ما فـمن "الملاحظ أن كلمة أسلوب تعني في النقد الغربي الحديث الجانب الشكلي... أي له عناية خاصة بالشكل حين يبدع وينشئ، أو حين يدرس وينقد، ومن هنا فالشكلي لا يعني أثناء الإنشاء أو النقد إلا بالشكل دون الاهتمام بالمضامين الاجتماعية والقيم الأخلاقية، بهذا يلتقي هذا الاتجاه النقدي مع مذهب الفن للفن الذي يزعم أصحابه أن ليس للأدب هدف أو غاية وإنما غايته في نفسه  ولنفسه"[5]. وكذلك هي نظرية النظم، فهي نظرية في الشعرية والأدبية بامتياز، ربما استفادت -بعض الشيء- من أرسطو إلا أن الجرجاني عرف كيف يستلهم أرسطو ويبعث النظرية بما يتوافق مع العربية، ويطلق النظرية البلاغية كنظرية فلسفية عالمية يمكن الاستفادة منها في شتى مجالات المعرفة.





[1] - سورة: الشورى، الآية: 11.
[2] - محمد بن الحسن بن فورك، مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري إمام أهل السنة، تحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط:01، 2005، ص:24.
[3] - فتحي أحمد عامر، من قضايا التراث النقدي، ص:195.
[4] - المرجع نفسه، ص:195.
[5] - لخضر العرابي، المدارس النقدية المعاصرة، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، د.ط، 2007، ص: 63.


مقتبس من كتاب: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني للكاتب: د. زهير بختي دحمور
للاطلاع على الكتاب انقر

0

الأحد، 8 ديسمبر 2019



جديد عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم
د. زهير بختي دحمور



إن المذهب العقدي الذي كان يتمذهب به عبد القاهر الجرجاني أعطاه شجاعة في البحث البلاغي في القرآن الكريم لا نجدها في المدرسة التيمية إن صح التعبير وخاصة في بعض الحنابلة، وذلك أن الحنابلة -في كثير من قضايا التفسير- لايؤولون، وهم يحاولون إيجاد أي أثر يبعدهم قدر الإمكان عن تأويل  القرآن الكريم والنظر إليه عقليا، وهذا ما جعل بعض مخالفيهم من أهل السنة أنفسهم يصفونهم بالحشوية ويعيبون عليهم كونهم ظاهريين.
فمبدأ ظاهرية النص الذي اتخذه الحنابلة أساسا لهم لم يعطهم الشجاعة في البحث حول التأويل واعتبروا أن تأويل النص يأخذه إلى غير ما أريد به؛ فالصفات التي أوّلَها الأشاعرة إنما هي عند مدرسة الحنابلة أو -لنقل (مدرسة ابن تيمية) بالذات- صفات ثابتة تقتضيها معاني الألفاظ المعروفة في لغة العرب على وضعها الظاهر منها، وهذا ما اعتبره الأشاعرة وغيرهم تجسيما وتشبيها، وهو ما يتنافى مع قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ  وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[1].
إن إمعان العقل في لغة العرب واعتبارها معيارا للتفسير بحجة أن القرآن جاء على لسانهم متحديا بلاغتهم وصناعتهم هو الذي كان حافزا في الوقت نفسه لعبد القاهر الجرجاني -بكونه أشعريا- لأنْ يبحث في بلاغة القرآن الكريم ويتخذ من آراء المدرسة الأشعرية موردا ومنهاجا في قراءته وتنظيره.
رأى الجرجاني أن للنظم ميكانيزمات بلاغية تجعل من الكلام كلاما بليغا، ومن جملة المواضيع التي فصلت بين الحنابلة والأشاعرة القول في المجاز، فقد قال ابن فورك عن الأشعري "يقول فيه: إن استعمال اللفظ في القول بأنه مجاز مجاز، وذلك أن أصل معنى المجاز من التجوز، ومن قولهم: جزت المكان إذا عبرته. قال: ذلك إذا استعمل في القول فتوسع في العبارة وليس حقيقة"[2].
كان ربط النحو بالنظم بمثابة إخراج النحو من شكليته وجفافه والخروج به من خلافات الإعراب والبناء، وهذا ما بعث فيه دفء اللذة والسمو بالذوق[3].
في الوقت ذاته حوَّل النظم البلاغة من مبحث الذوق إلى الرؤية العقلية للتراكيب البلاغية.
يقول فتحي أحمد عامر في هذا الصدد: "فتح عبد القاهر بذلك باب التذوق البلاغي على مصراعيه للدارسين والعلماء من معاصريه، والمتأخرين عنه، وظل رائد مدرسة الإعجاز البياني التي حددت معالم الفكرة المعجزة التي هي النظم، والخروج بعلم النحو إلى نمط خير مما كان عليه، وأصبح التعريف والتنكير والتقديم والتأخير والإفراد والتثنية والجمع وغير ذلك من مسائل النحو لدقائق وأسرار يتأملها العقل البشري ويتلذذ بها التفكير الإنساني في آيات القرآن"[4].
من ناحية أخرى فإن الجرجاني تجاوز النقد التقليدي الذي يعطي أحكاما انطباعية منبنية في أصلها على مقارنة الأبيات بأبيات، وإعطاء الحكم على القصائد من خلال بيت واحد قد يصير صاحبه أشعر العرب عند أحدهم أو أشعر الجن والإنس عند آخر.
لقد ساعدت العقلانية الأشعرية في الحكم على القضايا  فتح مجال عريض لتطوير النقد، وعليه فنظرية النظم -الجرجانية بالخصوص- هي محاولة في علمنة الأدب والبلاغة، وهي بحث في محاولة إتاحة الفن للجميع وتجاوز فكرة ما نعرفه اليوم بالموهبة أو ما عرفه الأقدمون بشيطان الشعر، وهذا يعتبر فكرة سباقة إلى البحث في الأسلوب لا من ناحية الانفراد باللفظ فقط أو بالأسلوب، ولكنه نظر إلى الأسلوب من حيث كونه جملة تراكيب لغوية ذات علاقة وطيدة بالسياق والنسق.
هذه الفكرة شكلانية إلى حد ما فـمن "الملاحظ أن كلمة أسلوب تعني في النقد الغربي الحديث الجانب الشكلي... أي له عناية خاصة بالشكل حين يبدع وينشئ، أو حين يدرس وينقد، ومن هنا فالشكلي لا يعني أثناء الإنشاء أو النقد إلا بالشكل دون الاهتمام بالمضامين الاجتماعية والقيم الأخلاقية، بهذا يلتقي هذا الاتجاه النقدي مع مذهب الفن للفن الذي يزعم أصحابه أن ليس للأدب هدف أو غاية وإنما غايته في نفسه  ولنفسه"[5]. وكذلك هي نظرية النظم، فهي نظرية في الشعرية والأدبية بامتياز، ربما استفادت -بعض الشيء- من أرسطو إلا أن الجرجاني عرف كيف يستلهم أرسطو ويبعث النظرية بما يتوافق مع العربية، ويطلق النظرية البلاغية كنظرية فلسفية عالمية يمكن الاستفادة منها في شتى مجالات المعرفة.




[1] - سورة: الشورى، الآية: 11.
[2] - محمد بن الحسن بن فورك، مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري إمام أهل السنة، تحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط:01، 2005، ص:24.
[3] - فتحي أحمد عامر، من قضايا التراث النقدي، ص:195.
[4] - المرجع نفسه، ص:195.
[5] - لخضر العرابي، المدارس النقدية المعاصرة، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، د.ط، 2007، ص: 63.

0



إشكالية اللفظ و المعنى من خلال نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني
د. زهير بختي دحمور

المصدر: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني/ د. زهير بختي دحمور

عولجت مسألة اللفظ والمعنى في بدايتها من خلال البحث عن جواب الاشكالية القائلة:
أيهما أسبق؛ اللفظ أم المعنى؟
وهي إلى حد ما تبحث في الاشكالية الفلسفية القائلة:
أيهما أسبق؛ اللغة أم الفكر؟
وأيهما يصنع الاخر؟

وهي اشكالية تأخذنا في عراقتها إلى الفلاسفة اليونانيين، ولكون هذه العلاقة جدلية لا تصل بنا إلى حل للغزهما جاء سؤال اللفظ والمعنى يطرح نفسه، باعتبار الإشكالية الأولى تصل بنا إلى حلقة مفرغة إذا اعتبرنا أن اللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أفكارهم، وهذا ما يصور لنا مدى تداخل اللغة والفكر، وبهذا فعلماء الكلام  المسلمون وُفِقوا بدرجة كبيرة في إعادة صياغة الإشكالية والمصطلح.
إن المعنى هو الصورة الذهنية المجردة عن الألفاظ، في حين أن الألفاظ هي التسلسل الصوتي الذي يمكن وضعه على أي معنى من المعاني، ومن هنا كان بالإمكان ان نفصل شيئين تركيبيين عن بعضهما تتكوّن منهما الكلمة.
كان الباقلاني في معرض قوله عن الإعجاز يقول: "إنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر ووصفوه فيه، وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب به والتصنع له كقول الشعر، ورصف الخطاب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة، وله طريق يسلك ووجه يقصد وسلم يرتقى فيه"[1].
يقصد الباقلاني هنا أن التسجيع والصناعة اللفظية إنما هي في الألفاظ، وهذا الأمر  يكتسبه الإنسان  من خلال الدربة والتعلم، ويبرر أن قضية الإعجاز خارجة عن سلطة اللفظ، لأن سلطة اللفظ إنما هي للإنسان، وهذا ما يصنع للإنسان قصوره في مجاراة القرآن الكريم؛ فهو إذ يحاول إثبات القرآن لله عز وجل يحاول إفهامنا أن مشاهير العرب اشتهروا بالفصاحة والغرابة والتصرف البديع، ومع هذا فالحقيقة أن الرجل فيهم إنما كان يشتهر بكلمات معدودة قالها وألفاظ قليلة، وكانت تنسب إلى الشاعر قصائد محصورة يجمع بينها اختلال واختلاف وتكلف كلما طال الكلام فيها، في حين أن هذه الملاحظة لا نجدها إذا تأملنا القرآن.
لقد كان القرآن الكريم على طوله وكثرته متناسبا ومتناسقا، وعلى هذا المبدأ جاء التحدي الإلهي في قوله تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله"[2]، وقوله عز وجل: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"[3]، وهذا دليل على أن كلام الآدمي إذا امتد وطال وقع عليه التفاوت والاختلاف[4].
إن الباقلاني إذ تكلم عن النظم وعلاقته باللفظ تظهر عليه معالم التأثر بالمعتزلة والجاحظ حين تكلم عن المعاني المطروحة في الطريق حيث يعرفها العجمي والعربي[5]، بينما الجرجاني فقد رأى في رأي الجاحظ طعنا في إعجاز القرآن.
إن ما نراه هو أن الجاحظ-إلى حد ما مع الباقلاني- قد تكلما في سياق صناعة الشعر، وهو ما عبر عنه عبد الرحمن بن خلدون فيما بعد بـالملكة، وهي تلك القوانين الذهنية التي يجردها العقل وتبنى عليها بقية أحكام اللغة و يمكن من خلالها أن يصنع المتكلم كلاما.
يقول ابن خلدون: "فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر؛ إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر استعماله وجريه على لسانه حتى تستقر له الملكة "[6]، وهذا الرأي واقعي إلى حد كبير، تبناه العديد من الفلاسفة في مناقشاتهم لقضية قدرة العقل على التجريد منذ أن ظهرت إشكالية الوجود والجوهر وعلاقة الأعراض بهما، وقد كان لهذا المبحث حظ كبير من طرف المتكلمين المسلمين، و خاصة الأشاعرة و المعتزلة منهم.
في محاولة لكسر مركزية اللفظ نجد ابن طباطبا العلوي يحاول البرهنة على أهمية المعنى، وينظر إليها من زاوية صناعة الشعر فيقول: "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة؛ فحصَ المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه والوزن الذي يسلس القول فيه، فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من معاني... فإذا كملت له المعاني وكثرت الأبيات وفّق بينها بأبيات تكون نظاما لها وسلكا جامعا لما تشتت منها"[7]، ومن الملاحظ جليا اتفاق عبد القادر ناظم مع هذا الرأي مع أنه رأي لا يقول به شاعر إطلاقا، ولا يغامر بسمعته الشعرية من أجل تبنيه؛ لأن قضية الشعر عند الشاعر تشبه إلى حد كبير جدا المتكلم بلغة أجنبية يجيدها، فهو من المستحيل بمكان إذا سألته  عن كيفية  تكلمه أن يقول بأنه يفكر بلغته الأصلية ثم يترجم كلامه إلى اللغة الأجنبية ليتكلم بلسان أجنبي؛ وبالتالي فابن طباطبا أساء الاستدلال لهدم مركزية اللفظ؛ لأن شرحه لهذه القضية هو أبعد ما يكون عن تقصيد القصيد.
شكّل مجيء عبد القاهر الجرجاني منعرجا في مسار دراسة البلاغة، ولا نغامر إن قسمناها إلى (بلاغة ما قبل الجرجاني) و(بلاغة ما بعد الجرجاني) نظرا لما أضافه عبد القاهر إلى الدراسات القرآنية والعربية، مع أن كتابه لم يكن مفهرسا فهرسة تليق بما يحتويه، إلا أن لعبد القاهر عذره في ذلك نظرا لسرعة تأليفه في زمان يظهر سخط الإمام عليه من بداية تسويد كتاب (دلائل الإعجاز)؛ فهو يشتكي من زمان تحال فيه الأمور عن جهاتها، وتقلب فيه الأخلاق، ولا يكون للعلم والخير فيه مكان[8].
على رغم ما سبق فإن الجرجاني لا يدعي وحييّة ما جاء به، ولكن يقرّ بمن سبقه في مسألة النظم فقد قال: "وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم، وتفخيم قدره، والتنويه بذكره، وإجماعهم أن لا فضل مع عدمه، ولا قدر لكلام إذا هولم يستقم له ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ، وبتّهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه ولا قوام إلا به، وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال"[9]، وكان يقر بمجيء مفهوم النظم على مصطلحات أخرى عديدة كالنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير، اتفق فيها البلاغيون على وجوب عليّة تقتضي التحام لفظ معين مع آخر بالضرورة، و فساد الكلام باستبعاد هذا الشرط[10].
ومع أن عبد القاهر صرح في كتابه بأنه قد نهل مما سبقوه، إلا أنه لم يصرح بأخذه من أرسطو على الرغم من أن الفكر الأرسطي كان سائدا وبقوة في الحقبة التي عاش فيها الجرجاني، وكان حضور أرسطو جليا إما بدعم آرائه أو نقضا لها، وقد أحصى عباس ارحيلة جملة ممن رأوا تأثر عبد القاهر بأرسطو وشارحيه كالفرابي وابن سينا[11]، وهذا أمر غير مستبعد، وهو شيء طبيعي جدا في علاقة الأمم ببعضها بحكم المثاقفة، إلا أن هذا لا يمنع الجرجاني من أن يجعل لنفسه بصمة خاصة في علم البلاغة وعلم الكلام وفلسفة اللغة، و لشكري محمد عياد مقارنة دقيقة حول المحاكاة بين أرسطو و عبد القاهر يقول: "قد نقل فكرة المحاكاة إلى النقد العربي؛ إذ رد روعة الشعر إلى براعة التصوير، والفرق الهام بين محاكاة عبد القاهر ومحاكاة أرسطو أن عبد القاهر يقرن التصوير بالقدرة على تحسين القبيح وتقبيح الحسن وهذه فكرة غريبة عن المحاكاة الأرسطية : فالمحاكاة عند أرسطو... تجسم الفضيلة أوالرذيلة، والحسن أو القبح ولا تقلب أحدهما إلى الآخر"[12].
من أولى القضايا التي تطرق إليها عبد القاهر بغية الانقلاب على سلطة اللفظ هي مناقشته لمفهوم الفصاحة والبلاغة، فقد اشتهر بين الناس على أن الفصاحة متعلقة باللفظ وأنه "لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي، وتعديل مزاج الحروف، حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان، كالذي أنشده الجاحظ من قول الشاعر:

وقبرُ حربٍ بمكانٍ قَفْرٍ     وليس قربَ قبر حرب قبرُ[13]

فبهذا رأى الجرجاني أنه قد جرى هناك خطأ في فهم الفصاحة، وهو الخلط بين ما هو وصف للشيء في نفسه، وبين ما هو وصف له من أجل أمر عرض في معناه، والفصاحة إنما تجنب للفظ من خلال إدراك لطائف بالفهم بعد أن يسلم من اللحن في الإعراب والخطأ في الألفاظ، ولا علاقة لهذا الأمر بالنطق[14]، وما عبر الناس عن فصاحة الألفاظ إلا باعتبار مدى ملاءمة معنى اللفظة لمعاني جاراتها "وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافه قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالية في مؤداها"[15].
من هنا يوضح الجرجاني تلك العلاقة العِلِيَّة التي تفرضها الألفاظ على بعضها، وهذا هو نقطة التحول التي يظهر فيها التحام اللفظ بالمعنى؛ فاللفظ لا يكتسب وجوده إلا من خلال الجملة في علاقة تجاورية سببية.
إن هذه العلاقة تصنع بالضرورة معادلة تقول: إن "ترتيبَ الألفاظِ النحويَ أو اللغويَ إنما يجيء تاليا لترتيب المعنى في الذهن، وكلما كان ترتيب الألفاظ محكما ودقيقا، تربطه علاقات منطقية قوية، كان ذلك أدق وأرق من إبراز المعاني المعقولة وتصويرها وإخراجها في ثوب قشيب من الأسلوب، العلاقات النحوية إذن هي المجاز الضروري إلى ما تشتمل عليه التراكيب من أسرار فنية، ومع تغيير بناء التراكيب تتغير القيمة الفنية التي تحتويها وتدل عليها"[16].
على هذا الأساس يكسر الجرجاني ثنائية اللفظ والمعنى، والتي هي في الحقيقة تمثل مركزية اللفظ، ويبني نظريته على علاقة أخرى ذات ماهية جدلية يحكمها قانون العلة والمجاورة، وتبرز من خلالها علاقة الكلمات في ترتيبها داخل الجملة والتركيب، حيث يتناسب فيها طرديا حسنُ النظم والسبك والاختيار مع روعة الأسلوب وجلاء الفكرة، ولا قيمة للألفاظ ولا تفاضل بينها ما دامت مجردة عن الجملة حتى تدخل في تركيب يحييها ويعطيها فاعليتها.
ولهذا يعرف الجرجاني النظم بقوله: "واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تجل بشيء منها، وذلك أن لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه[17].




[1] - الباقلاني، إعجاز القرآن، ص:111.
[2] - سورة الزمر، الآية: 23.
[3] - سورة النساء، الآية: 82.
[4] - ينظر: الباقلاني، إعجاز القرآن، ص:36.
[5] - للتوسع في مناقشة الجرجاني لرأي الجاحظ والمعتزلة، ينظر: الجرجاني، دلائل الإعجاز، تح.محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، ط:03، 1992 ص:255، 393.
[6] -عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط: الأخيرة،2000، ص:358.
[7] -  عبد الجليل ناظم، البلاغة والسلطة في المغرب، ص 121.
[8] - ينظر: الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص:33-34.
[9] - المصدر نفسه ص:80
[10] - ينظر المصدر نفسه ص:49.
[11] - ينظر: عباس ارحيلة، الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين، إلى حدود القن الثامن الهجري، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط:01، 1999، ص: 504-510.
[12] - المرجع نفسه، ص:509.
[13] - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص:57.
[14] - ينظر: ثناء نجاتي محمود عياش، الجهود البلاغية للتفتازاني في كتابه المطول، دار وائل للنشر، عمان، ط:01، 2006، ص:71.
[15] - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص:44-45.
[16] - فتحي أحمد عامر، من قضايا التراث النقدي: دراسة نصية نقدية تحليلية مقارنة- النقد والناقد، منفذ المعارف، الإسكندرية، د.ط، د.ت، ص:202.
[17]  - عبد القاهر الجرجاني, دلائل الاعجاز , ص:81.

مقتبس من كتاب: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني للكاتب: د. زهير بختي دحمور
للاطلاع على الكتاب انقر
0

عن الكاتب

عنوان الصورة عنوان الصورة عنوان الصورة عنوان الصورة عنوان الصورة